إضاءة على نظرية البجعة السوداء
يقول دونالد رامسفيلد ــ وزير الدفاع الامريكي الأسبق ومهندس احتلال وتدمير
العراق - في مذكراته المعروف
واللامعروف : « ثمة أمور نعرفها
ونعرف أننا نعرفها ، وثمة أمور نعرف أننا لا نعرفها ، ولكن ثمة أمور لا نعرفها ولا
نعرف أننا لا نعرفها ».
هناك العديد من الروايات والأشعار المستوحاة من طائر البجع الجميل الأنيق ذي
الريش الأبيض الثلجي ومن أشهرها رائعة المبدع الروسي تشايكوفسكي الموسيقية «بحيرة البجع » ؛ وقد كان الناس واثقين بأن كل طيور البجع لونها
أبيض ، ولكن اكتشاف بجعات سوداء في غرب أستراليا في القرن الثامن عشر كان حدثاً غير
متوقع ومفاجئ لدرجة نشوء نظرية البجعة السوداء التي وضعها المفكر وعالم الإحصائيات
الأميركي من أصول لبنانية نسيم نقولا طالب ، فنَّدت رؤية بجعة سوداء واحدة الإعتقاد
السائد حول هذه الطيور وجعلت معرفتنا
الماضية موضع تشكيك وطرحت تساؤلات عديدة حول رؤيتنا الهشة للعالم حولنا وأصبح
تعبير البجعة السوداء كناية عن كل حدث يتصف بالأتي :
·
يكون
غير متوقع ومفاجئ .
·
يكون تأثيره طاغياً على مجرى الأحداث .
·
تتم محاولة تفسيره وتحليل أسبابه واحتمالية تكراره
مجدداً للحد منه أو محاولة استحضاره .
عندما يتعلق الأمر بالمستقبل يلجأ البشر عادةً
الى مراقبة العالم والأشياء المحسوسة حولهم ويخرجون باستنتاجات يستمدون منها توقعاتهم
حول المستقبل ، ولكن مشكلة البجعات السوداء أنها أحداث غير قابلة للتكهن كونها
تخرج عن إطار تفكير الإنسان المعتاد المبني على التكرار والخبرة التراكمية ، وهناك
عدة مجالات في العالم قد نشهد فيها بجعات سوداء كالحياة المهنية أو السياسية أو
حتى حياتنا الخاصة ، ولكن يبدو أنَّ بعض القطاعات والنشاطات الإنسانية هي أكثر عرضة
من غيرها للأحداث غير المتوقعة ، لذلك يُقسّم الكاتب المجالات العملية إلى نوعين :
·
المجالات المعيارية : أصحاب هذه المهن يعتمدون بشكل خاص على الأمور الفكرية الإبداعية ولا يوجد
سقف محدد لمداخيلهم ، فمدخول الفرد الذي يعمل كمؤلف لا يتعلق مباشرة بكمية العمل
الذي ينجزه فهو ليس بحاجة لإعادة تأليف الكتاب عند رغبة أحد ما بشرائه ، وأصحاب المهن
المعيارية هم أكثر عرضة من غيرهم لمفاجآت البجعة السوداء .
·
المجالات الغير معيارية : تشمل العمال والموظفين
كون مدخولاتهم محدودة ومتوقعة ، فدخل الشخص الذي يعمل خبازاً يعتمد على كمية العمل
التي ينجزها ؛ فهو بحاجة لأن يبيع مقدار
أكثر من الخبز لكي يجني المزيد من المال ، وهؤلاء العمال ليسوا عرضة بشكل
خاص للبجعات السوداء.
ومن الجدير بالذكر أنَّ البجعة السوداء ليست
بالضرورة حدثاً سيئاً إذ إنَّ الكثير من الاكتشافات والاختراعات لم تكن متوقعة أبداً
وشكلت بجعات سوداء وطبعت التاريخ بآثارها ، فاكتشاف أميركا من قبل كريستوف كولمبوس
يُعتبر بجعة سوداء ، فهدف كولمبوس كان إيجاد طريق جديد للهند والنتيجة كانت صدفة
سعيدة وهي اكتشاف العالم الجديد ، والإنترنت أيضاً هو بجعة سوداء فلم يكن أحد
يتنبأ بالمدى والحيز الذي ستحتله الشبكة العنكبوتية في حياتنا اليومية ؛ فلو علموا أهمية الإنترنت لاستثمروا
أموالهم في شراء أسهم غوغل عندما كان السهم ببضع دولارات
فقط .
ومن الناحية الإقتصادية يمكن تفسير الإنهيار الكبير
الذي حدث نهار الاثنين الأسود عام «1987 م » على ضوء نظرية البجعة السوداء لأنه كان خارج
إطار التوقعات وتميز بالانخفاض الحاد الذي
شهده مؤشر داو جونز الصناعي في يوم واحد ، والسبب الذي جعل منه أول انهيار في
النظام الإقتصادي الحديث هو استخدام نظام التجارة المحوسب ( الكومبيوتر) الذي كان ابتكاراً
حديثاً آنذاك وساهم في تعميق المشكلة ؛ فأجهزة الحاسوب كانت مبرمجة ومُعَّدة لتداول الأسهم بسرعة بعد فحص جمل منطقية معينة ، وهكذا تسبب هذا النظام
البرمجي في تداولات ومبيعات أوتوماتيكية تزامنت مع انهيار السوق رافقتها عاصفة
قوية ضربت بريطانيا ممَّا أدى الى انهيار الاقتصاد
واختفاء ملايين الدولارات من البورصة .
كذلك عجز جميع الخبراء الإقتصاديين عن التنبؤ بأزمة « 2008م » الإقتصادية والتي تُعتبر أسوأ كارثة اقتصادية منذ الكساد العظيم والتي أدت إلى ما بات يُعرف
بالركود الكبير مسببةً انخفاض أسعار العقارات في الولايات المتحدة وزيادات حادة في
معدلات البطالة ، ولقد كانت تداعيات هذه
الازمة هائلة ولازالت أثارها حتى يومنا الحاضر ، وعزاها نسيم طالب إلى فشل الاقتصاديين في توقع
الحركات الحادة للسوق نتيجة اعتمادهم على المنحنى الجرسي (منحنى التوزيع الطبيعي )
المستوحى من عالم الرياضيات الألماني غوس والذي أثبت الكاتب فشل هذا المنحى بالتنبؤ
بالاحداث النادرة والخطرة ، و يتهم نسيم طالب أصحاب المصارف بالغباء وقصر النظر لأنهم
يعتمدون على نماذج لا تأخذ بعين الإعتبار كل الأخطار الممكنة بل تستبعدها .
ولا يسعنا أيضاً في هذا الإطار إلا أن نذكر الإنهيار المالي الذي تعاني منه المصارف
اللبنانية ، والتي كانت تتمتع بسمعة ممتازة وكانت معروفة بانها تُؤمن للمودعين
فوائد معتبرة ، فهذه المصارف لم تُنوع
محفظة توظيفاتها كي تتجنب السقف الأعلى للمخاطرة ، ومضت قدماً بإقراض الدولة بشكل مباشر وغير مباشر ، وفي
المحصلة تلاشت أموال المودعين وفقد المصرف المركزي احتياطاته من العملة الصعبة ؛ فاُستنزفت
في تثبيت سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية .
أما ما هو مثير في الكتاب تقسيمه العالم الى اقليمين
وهميين هما وهدائستان وغلوائستان ولكل إقليم الأتي :
• قواعده الخاصة .
• طريقته الخاصة في التعرض للإحتمالات .
• نوعه الخاص من العشوائية .
وهدائستان :
هي الأرض التي يعتقد الإنسان أنه يعيش عليها وتمتاز بالرتابة والهدوء
وتكون مُحَصنة عادةً من مفاجآت البجعات السوداء وفيها يمكن الإعتماد على
البيانات الإحصائية كونها تخضع لقوانين رياضية ثابتة ، والمعطيات فيها تتوزع وفقاً
للخط البياني للمنحنى الجرسي ولا تخضع لتغيرات كبيرة للغاية فحتى لو حصل حدث غير
متوقع ، فلن يثير مشاكل جوهرية لأنه يحدث في إطار هذه القوانين والمناهج المعمول
بها .
غلوائستان
هذه هي أرض اللامساواة والجرأة حيث الغني يزداد غنى والفقير يزداد
فقراً وهي غيرمُحَصنة ضد مفاجأة البجعات السوداء ؛ فالاختلافات هنا كبيرة
بين المعطيات وغير ثابتة وسريعة التغير فلا يمكن اخضاعها للقوانين والنماذج الاحصائية
المعتادة ، وفي هذه الإقليم تكون القِيَم غير متكافئة وجامحة ويصعب التنبؤ بها لذلك
فإن البجعة السوداء موجودة فقط في غلوائستان .
وينصح الكاتب طالب باعتماد أسلوب التجريبية التشكيكية للاستعداد لجميع الاحتمالات وتجنب
خداع الذات والفشل ، والتجريبية التشكيكية
تتعارض بشدة مع مفهوم الأفلاطونية ؛ فالافلاطونية نسبة لأفكار الفيلسوف أفلاطون « « Platon لها أثار جانبية شديدة الضرر ، فأصحابها يميلون بشكل عام إلى التركيز على
شكل الأشياء وبُنيتها ، وبما أن العقل البشري يحتاج إلى نظام وترتيب معين ، إلا أنه يتجاهل
العناصر الأقل تنظيمًا لصالح ما له "شكل وتنظيم " تدفع هذه الرغبة في
تنظير العالم وتنظيمه في أشكال يسهل التعرف عليها إلى الاعتقاد بأن الإنسان يعرف
أكثر ممَّا يعرفه بالفعل . فالأفلاطونية تُعزز الاعتقاد بأن الفرد يعرف كل شيء ولكن
طريقة التفكير هذه لها حدودها وتصبح خطرة عندما تتلاقى مع واقع مضطرب ممَّا يؤدي يقيناً
الى حدوث البجعات السوداء.
أما التجريبية
التشكيكية المستوحاة من أفكار الفيلسوف سكستوس امبريكوس « Sextus
Empiricus »فهي تمزج التجربة الملموسة للعالم مع الشك المنهجي هذه العقلية مهمة لتجنب الوقوع
في فخ الأفلاطونية كما تسمح لنا بتغيير وجهة نظرنا الى الحياة من خلال إدراكنا أن الأشياء التي لا
نعرفها تفوق بكثير الأشياء التي نعرفها فتمنعنا
العقلية التشكيكية من أن نخدع ومن التعرض
لخسارات قاسية .
يجب أن ندرك أنَّ العالم المعاصر الذي نعيش
فيه حالياً هو شديد العشوائية والجموح و يشبه غلوائستان أكثر منه وهدائستان، فهناك احتمال كبير أن نتعرض جميعاً للبجعة السوداء لذلك يدعو المؤلف القراء للتنبه والوعي فالطبيعة
الإنسانية تتميز بالعجرفة المعرفية وتجعل المرء يظن أنه يعرف كل شيء ، ولا يدرك أنَّ عالمنا هو
مكان غامض ومعقد جداً ؛ فإذا كنت تراقب الظواهر التي حدثت في الماضي وتستخلص استنتاجات عما
سيحدث غدًا وإذا كنت تبني فهمك للعالم على ما يحدث حولك ؛ فلقد تم خداعك للأسف
كالديك الرومي الذي يتم إطعامه
يوميا ًفي المزرعة ؛ فكل يوم يمر يزداد إحساس الديك بالأمان واليقين بأنه
سوف يتغذى في اليوم التالي ، ومع مرور الوقت يبني الديك الرومي رؤيته للمستقبل اعتماداً
على تجربته في الحاضر . ومع ذلك ، في اليوم السابق لعيد الشكر ، حدث ما كان يجب أن
يحدث : لقد ذُبح الديك الرومي وأصبح المسكين الوليمة الرئيسية وعملية الذبح هي
البجعة السوداء بالنسبة للديك لقد انخدع الديك
الرومي بمصيره والأسوأ من ذلك ، أنه كلما اقترب من اليوم المشؤوم ، زادت ثقته في احتمالية
إطعامه في اليوم التالي فمشكلة البجعة السوداء مرتبطة بشكل
أساسي بالمعرفة وكيفية اكتسابها .
ومع ذلك لا ينصح المؤلف باللجوء الى الخبراء و أصحاب
الشهادات المرموقة للحصول على التوقعات ، فكون شخصًا ما خبيرًا في مجال معين ليس
كافياً أبداً لتعتمد على تكهناته لأن التخصص المفرط للخبراء حسب الكاتب يجعلهم منغلقين
على ذواتهم ويدفعهم لأجراء تحليلات لا تأخذ بعين الإعتبار البيانات الأساسية ،
فالغطرسة المعرفية تمنعهم من رؤية البجعات السوداء .
ويدعو الكاتب القراء الى عدم
الإكتفاء برؤية جزء محدد من الواقع
لبناء معرفتهم عن العالم والتعامي عن الصورة الكليَّة الشاملة وهذا ما أطلق عليه « مقبرة الدليل الصامت» ؛
وينصح بتجنب ثلاثة أخطاء :
الخطأ السردي
السرد ينبع من حاجة بيولوجية فطرية لتبسيط المعلومات بهدف حفظها واستحضارها عند الطلب وهذا خطير جداً، فنفس
الظروف التي تجبرنا على التبسيط تجعلنا نعتقد أن العالم أقل فوضوية مما هو عليه
بالفعل. لهذا السبب ، عندما يحدث شيء ما نراه كجزء من الكل أي جزء من القصة التي
سوف نسردها ولكن عندما يخرج هذا الحدث عن المألوف ؛ فإن عقلنا يفضل تعديل شبكة القراءة
الخاصة به عوضاً عن القبول والإعتراف بالحدث الشاذ مع كل تشعباته ، وهذا الحدث
الشاذ هو بالطبع البجعة السوداء .
خطأ التوكيد :
بالإضافة إلى الخطأ السردي يميل الإنسان إلى
الوقوع في فخ خطأ التوكيد ؛ وتدور هذه الفكرة حول كيفية تفسيرنا للأدلة التي تؤكد
نظرتنا إلى الحياة. ، فلا ينبغي الخلط بين عدم وجود دليل وبين دليل الغياب .على
سبيل المثال ، اذا كان تحليل عينة من جسدك لا يظهر أي خلايا سرطانية فهذا لا يعني
بالضرورة أنك غير مصاب بالسرطان بل يعني
فقط انك لا تملك دليلاً على أنك مريض
بالسرطان وليس دليلاً على عدم إصابتك بالمرض.
المغالطة اللودية :
هذا الخطأ هو الاعتقاد بأن فُرص الحياة الحقيقية تشبه المقامرة في
الكازينو ، فاللاعب المقامر يعرف قواعد اللعبة مسبقًا ويستطيع
احتساب احتمالات الربح والخسارة ، والفرصة المرتبطة بالمقامرة والمعروفة "بعشوائية النوع الأول " ، تتضمن عنصرًا
من اللايقين ، ولكنه اللايقين الذي يتم التحكم به ؛ فافتراض أنَّ حياتنا ستخضع
لذات النوع من العشوائية هو أمر جذاب ؛ لأن هذه الفرصة يمكن تشكيلها من خلال المنحنى
الجرسي وبالتالي تسمح بإمكانية التنبؤ بالفوز ، ولكن في الحياة الواقعية ليس من الممكن أبدًا معرفة جميع المعايير التي
يمكن أن تؤثر على مسار الأحداث أو متى ستأتي الفرصة المناسبة .
لكي نتجنب أن نصبح مخدوعين كالديك الرومي ولا نقع ضحية للبجعات
السوداء ينصح الكاتب بالأمور التالية:
• تقَّبل عدم اليقين ، وتقبل عدم المعرفة التامة .
• عدم الانغماس في الموقف السلبي والقدري .
• السعي للتعرض للبجعة السوداء الإيجابية والاستفادة من حالة عدم
اليقين من خلال البحث عن حلول للمشاكل على أوسع نطاق ممكن ، والاستعداد لجميع
الاحتمالات وبالأخص الاحتمالات المبررة وإدراك قيمة الفرص الممنوحة لنا .
وفي النهاية ، لا يسعنا القول إلا أن ديناميكيات البجعة السوداء
موجودة بشكل متزايد في المجتمع الحديث ، وفي عالم تكون فيه الفرصة شديدة الجموح من الضروري أن نكتسب فهماً
أفضل للأشياء ويجب الاقتناع بعدم قدرتنا على المعرفة اليقينية التامة وتعلم النظر
إلى ما لا يظهر وتجنب الأنماط الفكرية الجاهزة بالإضافة لتطبيق الشك التجريبي على قراءتنا
للعالم بمجمله ، لا يوجد شيء في الحياة اسمه إمكانية التنبؤ الكلي ؛ لذا علينا
الاستعداد لمجموعة واسعة من الأحداث وتطوير أدوات وخطط عمل ومناهج التعامل مع الأزمات لمعالجتها
وليس استثمارها ليكون تفاعلنا معها مجرد ديماغوجيا .

تعليقات
إرسال تعليق