التخطي إلى المحتوى الرئيسي

خيارات فرنسا بعد الغاء استراليا صفقة غواصاتها



مقالي في جريدة  رأي اليوم 


 خيارات فرنسا بعد الغاء استراليا صفقة غواصاتها

شَكَلَت الثورة الصناعية الأولى نقطة تحول في تطور المجتمعات وظهور الدول الحديثة ؛ فلقد نَتَج عنها اضمحلال الإمبراطوريات الشاسعة المبنية على أساس وحدة الدين أو نقاء العرق كما تَفَاقَم على وقعها الصراع على مناطق المواد الأولية والأسواق الاستهلاكية حتى يواكب متطلبات ما يُطلق عليه  (Mass Production)، ومؤخراً ساهم انبلاج فجر الثورة الصناعية الرابعة بإعادة رسم خارطة القوى وخلق أشكال تحالفات جديدة واليات مبتكرة في التنافس بين روادها .

أنهك الاتحاد الاوروبي ترميم وترتيب البيت الاوروبي ، واستيعاب بعض دوله من الكتلة الشرقية ، وظن الكثيرون من علماء الاقتصاد والسياسية أن أوروبا ستكون القطب الجيد والمنطقي والأوفر حظاً لمواجهة الهيمنة الاقتصادية والعسكرية الأمريكية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ، فأوروبا لا تنقصها القدرة التكنولوجية ولا الاقتصادية ولا حتى العسكرية ، ويميزها قربها الثقافي والتاريخي والجغرافي من الموارد في افريقيا والشرق الاوسط وكذلك من الاسواق الاستهلاكية الضخمة .

لكن أوروبا استنفذها اقتصادياً اعادة تأهيل دول أوروبا الشرقية وحروب البلقان ، وشهدت أيضاً صراعاً وتناقضاً بين أحزاب اليمين واليسار ؛ فاليمين بمجمله يعارض فكرة الاتحاد الاوربي ، ويفضل العمل على مصالح دولته بمعزل عن الاتحاد الاوروبي .

وفي المقلب الأخر عملت السياسية الامريكية ممثلة بإداراتها المتعاقبة سراً وعلانيةً على اخضاع أوروبا وتهميش دورها دولياً ، ودعمت قرار انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الاوربي فالعلاقة الامريكية البريطانية أكثر تناغماً وأعمق ثقافةً وأثمن اقتصادياً لبريطانيا من ما هي عليه مع الاتحاد الاوربي ، وساهم لاحقاً احتلال امريكا لأفغانستان والعراق ، وعدم الاستقرار في ليبيا وسوريا والذي نتج عنه تزايد الهجرة وهيمنة أمريكا على منابع الطاقة وطرق المواصلات بإضعاف الدور الاوروبي سياسياً وعسكرياً والذي وصل لحد استمالة بعض الدول الاوروبية من الكتلة الشرقية مثل اوكرانيا ودول البلقان .

وفي خضم التراجع والمعاناة في أوروبا كانت الصين التي راهنت أمريكا والاتحاد الاوروبي على أن مصيرها لن يكون أحسن حالاً من مصير جارها الاتحاد السوفيتي ، وأن بذور انهيارها وحربها الأهلية التي قد تقسمها  زُرعت وما عليهم إلا انتظار الحصاد ، ووصل الأمر عند حكوماتهم الاستعانة بمراكز تخطيط السياسات والاستراتيجيات لوضع خطة طوارئ تُحاكي انهيار الحكم المركزي وتفكك الحزب الحاكم قي الصين ، وكان ذلك في أواخر الثمانينات من القرن الماضي ، والذي بلغ أوجه خلال أحداث ساحة تيانانمن في العاصمة بكين في عام 1989م أي قبل انهيار الاتحاد السوفيتي رسمياً واستمر الى ما بعد انهياره . تلك الخطة التي تلخصت بتمكين حكومة تايوان من التحول لحكومة في عموم الصين ودعمها من حلف شمال الاطلسي واليابان وكوريا الجنوبية التي كانت متوجسة من تأثير تلك الأحداث على كوريا الشمالية حتى أنها استعانت بالحكومة الألمانية لاستنساخ تجربتها مع المانيا الشرقية ودرست سيئول خطط حكومة بون في معالجة الفجوة الاقتصادية والاجتماعية وسرعة معالجة ملف البطالة بعد أن أصبحت حكومة برلين الموحدة .

لكن الصين وازنت بين ملفها الأمني والإصلاحات الاقتصادية ، ولم تقم إلا بالحد الادنى من الاصلاحات السياسية دون الخضوع لأي إملاءات خارجية تتعارض مع جوهر نظامها الحاكم وسيطرة الحزب الواحد       فركزت على الإصلاحات الاقتصادية مع بقاء القبضة الامنية الحديدة ، وبشكل أو بأخر تمكنت من توطين التكنولوجيا والصناعات ، وخففت من سيطرة الدولة على الاقتصاد ، وساعدت القطاع الخاص وشجعته دون المساس بالأمن القومي أو بمجانية بعض الخدمات كالتعليم والصحة أو أسعار السلع الاساسية ، وسَّهل أهدافها طبيعة وخصال شعبها الذي يعمل بجد ولا يطالب بحقوقه دون القيام بواجباته ويقدس العمل ولا يميل للاستهلاك والبذخ المبالغ فيه ، ويُؤمن أن التدخل الاجنبي في شؤونه لن يجلب له الخير  .

الولايات المتحدة الامريكية لم تعد بحاجة لحلف شمال الاطلسي بشكله التقليدي ، وأوروبا لا تمتلك رفاهية البدائل فلم تشجع أمريكا التدخل الفرنسي في ليبيا ولم تعارض التدخل التركي ؛ فأمريكا أعطت فرنسا فضاء في مستعمراتها الافريقية القديمة جنوب الصحراء ولن تساعدها في الاستحواذ على أسواق تعتبرها ملكاً لها أو تعزز قوة حلفائها الجدد .

وعلى نفس النسق فمن غير المسموح لفرنسا تقليص النفوذ البريطاني في استراليا أو نيوزلندا ، ولم يكن  قرار الغاء صفقة الغواصات الفرنسية من قبل الحكومة الاسترالية عبثياً فاستراليا ليست دولة بلا مؤسسات وقراراتها ليست قرارات الفرد بل قرارات مؤسسات أما عن الأسباب فتتلخص فيما يلي :

·         قرار الإلغاء عززته الدراسات التقنية والعلمية والتي فضلت غواصات الوقود النووي والتكنولوجيا الامريكية البريطانية التي تتلائم مع الصناعات اللوجستية العاملة في المرافق الاسترالية .

·        يثمن ساسة استرالية أهمية الوجود الامريكي في المحيط الهادي والذي كان العامل الحاسم في ايقاف التوغل الياباني في قارة أوقيانوسيا إبان الحرب العالمية الثانية .

·        الحلف الامريكي البريطاني الاسترالي له أهمية استراتجية في مجابهة الصين والحد من سيطرتها على أسواق الفلبين وإندونيسيا وماليزيا وحتى فيتنام وتايلاند ، وفشلت فرنسا تاريخياً في حماية نفوذها هناك بل خَلَّف النفوذ الفرنسي عبئاً ثقيلاً على الولايات المتحدة وكلفها الكثير .

أما عن خيارات فرنسا ؛ فهي لا تستطيع منفردة مواجهة النفوذ الامريكي دون تأييد دول أوروبية كألمانيا وايطاليا والتي لها ثقل اقتصادي وازن ولها نفس المخاوف من السلوك الأمريكي في العالم وعلى الاخص في الشرق الاوسط وتداعياته الاقتصادية وليكن أقلهما ملف المهاجرين وإمدادات الاسواق الاوروبية بالطاقة ، وأما عن خيارات فرنسا الأكثر جموحاً فهو خيار التقارب مع روسيا وهذا القرار يعني استعداء أمريكا وفقدانها ثقة بعض الدول الاوروبية مثل أوكرانيا ، لكن خيار تقاربها مع الصين مستبعد ؛ ففرنسا في خضم صراع وجودي مع الصين على ما تبقي لها من نفوذ في قلاعها الافريقية .  

وعن تأثير هذا الصراع عربياً ؛ ففرنسا منفردة لن تستطيع ملء الفراغ الذي تركته أمريكا في الشرق الاوسط ؛ فأي تدخل فرنسي سيواجه بمعارضة تركية ، وستفشله تعقيدات وتداعيات الصراع الإيراني السعودي ، ومع ذلك تحاول كسب حصة من الأسواق الخليجية من بوابتي السعودية والإمارات ، والتحالف مع مصر لمواجهة النفوذ التركي في شرق المتوسط بما فيه ليبيا وباقي دول المغرب العربي ، وأبدت رغبة في زيادة التعاون والشراكة مع الجزائر والمغرب ، وإنهاء النفوذ التركي في تونس ، وكذلك حرصها على ابقاء دور فاعل لها في الملف النووي الايراني ، ولكنها في هذا السياق أكثر حرصاً على حماية مصالح الكيان الصهيوني في مفاوضات هذا الملف وحماية أمنه .

إن ما يحدث في لبنان والعجز الفرنسي عن حل الأزمة القائمة رغم المحاولات يثبت بما لا يدع مجالاً للشك : أن فرنسا منفردة لم تعد قادرة على لعب دور حاسم في أيٍ من ملفات الشرق الاوسط بل تحتاج الى تحالفات مع دول وازنة لا تخضع للنفوذ الأمريكي ، كالتحالف مع روسيا وتسويقها أوروبياً ؛ فقد يساهم هذا الحلف في تحريك ملفات الشرق الأوسط الحساسة ؛ كملف القضية الفلسطينية ، ولعب دور الوسيط بين السعودية وإيران ولكن هذه الاستراتجية تتطلب وجود قادة بمواصفات جاك شيراك على الأقل أما قادتها الآن ؛ فهم غير قادرين على قيادة مثل هذه المرحلة الفاصلة ، واتخاذ قرارات مصيرية تغير تحالفات الحرب الباردة .  

خلَّف نظام القطب الامريكي الواحد الكثير من الضرر والفشل والمآسي في العالم وعلى الأخص قي الشرق الاوسط ؛ فمعاناة الشعب الفلسطيني مستمرة وتتفاقم ، وأوجد حالة من عدم الاستقرار ، وسعى لتقويض وحدة الكثير من الدول وتناسق نسيجها ، وضرب أمنها المجتمعي ، ولم يكن هدفه الحقيقي من تغيير الأنظمة الاصلاح السياسي أو الديمقراطية ؛ بل استهدف العديد منها حتى ينهي الشرعية التي قد تُعيق هدفه الحقيقي المتمثل في تحويل الدولة الموحدة الى كانتونات تحكمها تنظيمات متناحرة لا يملك أيٌ منها شرعية توافقية أو رسمية ، وأمريكا الآن تُغير أولوياتها وتترك حلفاء الأمس حتى الأوروبيين منهم ، وتركز على ملفات تعتبرها بالغة الأهمية : وهي مجابهة الصين ، وعدم السماح لروسيا بالسيطرة على الطرق الوليدة قرب القطب الشمالي ومعالجة تداعيات ظاهرة ترامب على المجتمع الامريكي ومنع تكرارها ، وتنمية اقتصادها عن طريق التكنولوجيا الرقمية والاتصالات ، وإيجاد حلول لتأثير الاحتباس الحراري وتغير المناخ على الداخل الأمريكي .    

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سي السيد و معركة ميلانو

سي السيد و معركة ميلانو مقالي في موقعي اخبار الاردن واحداث اليوم - الصورة منقولة  عذرا، فقبل البدء وكي لا أُتَّهم بالتحامل ،   أ نا لا أتكلم عن كل الرجال ولكن أقصد شريحة معينة إ سترعت إ هتمامي و إ ستفزت قيم الشرقي   فكان لا بد لي من ال إ شارة إليها من باب الحرص لا النقد. لاشك بأنَّ الثقافة المجتمعية والمعيشية تتغير مع متطلبات العصر، لكن لكل أُمَّة عادات ومبادئ يجب أ ن لا تُهدم بمعول الحداثة ولا تُداس بحذاء من يدًّعي محاربة التخلف.   أ ثناء معركة الفجر بين النور و أ خر بُقع الظلام في شارع (كورسو بينس آ يرس) في مدينة (ميلانو) ، ر أ يت إمرأة إ فرنجية في العقد الرابع من عمرها   تخوض معركة طاحنة غير معركة النور والظلام بل معركة لقمة العيش   كموظفه فها هي بدأت عملها بمعالجة   إ نسداد (منهل) للصرف الصحي ، ولا أ علم لماذا تذكرت وأنا أنظر بدهشة إ ليها   رائعة الكاتب المبدع   نجيب محفوظ   بين القصرين .   و أ عتقد جازما أن أغلب الرجال الذين شاهدوا أ و تصفحوا رواية نجيب محفوظ الشهيرة   ، أُعجبوا بشخصية سي السيد و أ...