تحدي سد النهضة
مقالي في موقعي اخبار الاردن واحداث اليوم - الصورة منقولة
مصر هبة النيل، لا تقال هذه العبارة جزافاً فهذا النهر العظيم الذي يعتبر أطول أنهار العالم وهو
شريان الحياة لمصر ومصدر عيشها. قديماً إرتبط
نهر النيل بأساطير عديدة تدل
على أهميته في حياة ووجدان المصريين،منها
أنَّ الآلهة تسيطر على النهر وأنَّ النيل هو هبتها للبشر، فالإله (خنوم) هو رب
الماء يجلب الرخاء ويخلق الناس من طين ما بعد فيضان نهر النيل، هذا وقد ذهب بعض دارسي الحضارة المصرية القديمة لأبعد
من هذا حيث زعم العالم (كورت مندلسون (أنَّ ملوك مصر القديمة شيدوا الأهرامات
خلال أوقات الفيضان كي يوفروا للفلاحين
العمل مقابل المأكل والمشرب والملبس حين تغمر
مياه النيل أراضيهم .
يتشكّل نهر النيل في الخرطوم من خلال إلتقاء نهرين رئيسيين هما النيل الأبيض
والنيل الأزرق.النيل الأبيض تبدأ منابعه جنوب رواندا أمّا منبعه الرئيس فهو بحيرة فكتوريا ، وهو يتمتّع بتدفّق مستمر نظراً لطبيعة الأمطار
في المنطقة ، بالإضافة إلى الإنتظام الذي تنتقل فيه المياه عبر بحيرات فكتوريا وبحيرة ألبرت ومستنقعات السُّد، أما
النيل الأزرق الذي يساهم بأكثر من نصف مياه النيل بل يصل في الصيف إلى تأمين ما نسبته ( 85% ) من مياه النيل ، فينبع من بحيرة تانا شمال غرب إثيوبيا التي تتمتع
بأمطار صيفية غزيرة ، كما وأنها مصدر مياه الفيضانات التي تصل مصر في شهر أيلول،
وتحمل هذه الفيضانات الطمي من خلال مياه النهر، وهي السبب في تجديد خصوبة التربة
في مصر رغم أنَّها إنحسرت بعد بناء السدود و إنشاء بحيرات التخزين، أما الرافد
الوحيد الذي يغذي النيل بعد إلتقاء النيل الأبيض والأزرق فهو نهر عطبرة .كما هو
معلوم فان دولة المصب هي مصر، وأهم دول
المجرى هي السودان كما إنضمت جمهورية جنوب السودان بعد إنفصالها عن السودان إلى
دول المجرى،أما دول المنبع فهي رواندا و أوغندا و تنزانيا وكينيا والكونغو الديمقراطية و بروندي أما إثيوبيا فهي أهم منبع للنيل الأزرق .
بدأ الإهتمام بنهر النيل منذ القدم حيث وضع العالم الإدريسي أول خارطة للنيل ، ولكن
الإهتمام بالنيل أخذ شكلاً آخر مع بداية
الإستعمار الغربي للقارة الإفريقية و تصاعد المطامع في مواردها ، فتصدرت المشهد بريطانيا حيث عقدت مع حكومة مصر إتفاقية
سنه 1929 ، وقد مثلت بريطانيا الدول الإفريقية
الواقعة تحت إستعمارها وكان هدف بريطانيا من هذه الإتفاقية ضمان حصة مصر والسودان من المياه لتستمر الدولتان في زراعة القطن
وغيرها من المحاصيل الهامة
لبريطانيا ، وقد أعطت هذه الإتفاقية مصر حق الفيتو لنقض أي مشروع على نهر
النيل .
عند قيام ثورة يوليو زاد إهتمام الحكومة المصرية بالنيل كمصدر للتنمية ليس فقط
من أجل الزراعة وتأمين مياه الشرب ، بل من أجل توليد الطاقة الكهرومائية لتغذية
المشاريع التنموية في مصر ، فتم عقد إتفاقية جديدة لتوزيع مياه النيل سنة
1959م بين مصر والسودان، بغياب دول حوض
النيل الأخرى ، كتكملة للإتفاقية السابقة التي أتت كخارطة طريق لتنظيم الحصص بين الدولتين لإنشاء
السد العالي .
شهدت
دول المنابع كثيرا من الإضطرابات عند إستقلالها
، فلم تنافس مصر على حصتها في مياه النيل ولاشك ان الثقل السياسي ودور مصر الإفريقي
المناهض للإستعمار آنذاك قد حدَّ من
المساس بالحصص المائية المتفق عليها تاريخياً .
لم يطرأ أي تغيير هام وواقعي على حصص مصر من مياه النيل منذ توقيع الإتفاقيات
عبر التاريخ ،
بل قام الرئيس المصري مبارك بالتوقيع على إتفاقية
جديدة هامه مع رئيس وزراء أثيوبيا سنة 1993 ليُشرعن حصة مصر المائية ويثبت
حقها التاريخي . وفي عام 1999 وُلدت مبادرة حوض النيل برعاية
البنك الدولي وفي سنة 2005 إكتمل عمل
اللجان وقدمت بنود إتفاقية الإطار إلا أن مصر والسودان رفضتا الإتفاقية وأصرتا على
إضافة بند يشير إلى الإعتراف بجميع الإتفاقيات
السابقة وإعلام دول المصب والمجرى مسبقاً عن أي مشروع وسدود ستُقام على منابع النهر مستقبلا ، الأمر الذي
رفضته أغلب دول المنبع . إستمر الخلاف على
بنود الإتفاقية إلى حد توجيه خطاب من البنك الدولي للرئيس المصري حسني مبارك يطلب
منه اللجوء إلى الإدارة الأمريكية لحل الصراع إلا انَّه رفض معتبرا الأمر مسالة أمن
قومي غير قابلة للتفاوض وأن مصر قادرة على حماية حقها ولمح إلى الدور الإسرائيلي ومخططها لجر مياه النيل عبر مصر إلى فلسطين المحتلة وأخبر
مدير البنك الدولي أن النيل ينتهي في مصر
وليس لبلد بعد مصر نصيب فيه ، وبعد ذلك قامت ست من دول المنبع بتوقيع إتفاقية (عنتيبي) دون مصر
والسودان .
وفي خضم الأحداث التي عصفت بمصر، قامت إثيوبيا منفردة بالشروع ببناء سد على النيل الأزرق
الرافد الأهم لنهر النيل دون إعلام مصر، وحاولت الحكومة المصرية التفاوض والتوصل
لحل مع إثيوبيا إلا أن خبراء المياه أجمعوا أن وجود السد بحد ذاته يُعتبر كارثة كبرى ستؤدي إلى حرمان
مصر من كميات كبيرة جداً من مياه النيل و مصر لا تحتمل التفاوض على هذا الأمر فمشكلة السد ذاته , و ليست كما يظن البعض مسالة زمن ملء السد .
تواجه مصر تحديات جدية في
موضوع سد النهضة التي تراكمت نتيجة إهمال الحكومات المتعاقبة لهذا الخطر رغم
وجود معلومات مؤكدة حول نية إثيوبيا
الشروع في بناء السد وعدم إهتمام تلك الحكومات
بالعرض الإثيوبي المتضمن شراكة مصرية سودانية بهذا المشروع ، فلو قبلت مصر حينها ذلك العرض لمنحها حق رفض الخطوات التي تضر بمصالحها ؛ ومن أهم مخاطر
سد النهضة على مصر أن مكان بنائه هو في منطقة نشطة جيولوجياً و إنهيار السد - لو حدث لأي سبب - بعد ملئه بالماء قد يتعدى
خطر أسلحة الدمار الشامل ناهيك عن خطر العطش والمجاعة
والتصحر الذي سوف تتعرض له مصر .
ولا يسعنا أن نتجاهل الدور الإسرائيلي البارز في التحريض على مصر في إثيوبيا
وباقي دول المنابع ، فالكيان الإسرائيلي له العديد من الأذرع الإستخباراتية والإعلامية هناك التي تعمل ليلاً نهاراً على تعزيز التطرف الوطني ضد مصر وزرع فكرة أنها
تُشّكل عقبة في وجه تنمية هذه الدول . والأخطر من ذلك الدعم الإسرائيلي العسكري
المباشر لتعزيز قدرات إثيوبيا العسكرية وخصوصا أنظمة الدفاع الجوي كونه من المحتمل جداً أن تلجأ مصر
لضرب السد بطائراتها الحربية كخيار أخير في حال أصرت إثيوبيا على موقفها المتعنت.
أما إثيوبيا فتتشبث في هذه القضية بموقفها لأنها تراهن على عدة أمور منها:
·
الإضطرابات في مصر والسودان
والاستقرار الداخلي المهدد .
·
الدعم الخارجي وبالأخص الأمريكي الذي يُضعف الدول المجاورة للكيان
الغاصب، فالإدارة الأمريكية
الحالية تسعى بكل قوتها لضمان
تفوق إسرائيل الدائم ،وليست مهتمة بإحترام حلفائها الآخرين او إحترام الإتفاقيات و
القانون الدولي فهي مقتنعة أنَّ إسرائيل يجب
تمتلك أوراقاً جديدة لضمان وجودها
كمياه النيل وغاز المتوسط بالإضافة إلى إنشاء علاقات مع دول جديدة تحتاجها إقليمياً .
·
ضعف الدور العربي في دعم موقف مصر حتى من قِبل السودان الشريك في
الأزمة.
· إتباع إثيوبيا
سياسة النفس الطويل بالمفاوضات حتى تكسب الوقت وتمتلك مياه النيل وتفاوض مصر على
حصص المياه مما يعطيها رصيد شعبي داخلي يعزز فوزها بالإنتخابات.
كلنا أمل أن يدير الإخوة المصريين الصراع بإقتدار فهم مدركون لما يُحاك
لهم ولمستقبل مصر والعرب جميعا وإذا اختارت مصر المواجهة فهي غير
ملامة إطلاقا فالأمن العربي المائي على المحك ونحن جميعا نريد لمصر أن تكون عزيزة كريمة مهابة
ونحترم
وندعم قرارها .
تعليقات
إرسال تعليق